Skip to main content

Article in Annahar Newspaper:

Link to Article

في خضم الاحداث الدموية التي تهز لبنان من كل حدب وصوب، وفي زمن باتت فيه الاولوية للبقاء على قيد الحياة والسعي لتوفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة ولقمة العيش، لماذا نسأل عن العلاقة اليوم بين العمارة، والسياسة والمدنية؟ هذا لأن هذه العلاقة هي في صلب المشكلات التي نشهدها على المستوى الوطني. لكي نفهم هذه الظاهرة علينا أولاً أن نفهم تداعيات المفهومين الرئيسيين، أي السياسة والمدنية.

ان مفهوم كلمة سياسة في اللغة العربية هو مفهوم معقد، فالكلمة تنبثق من الفعل الثلاثي “ساس”. ومن تعريف كلمة “سياسة” في “لسان العرب”:
السياسة: فعل السائس. يقال: هو يَسُوسُ الدوابَّ إِذا قام عليها وراضَها، والوالي يَسُوسُ رَعِيَّتَه.
هذا التعريف طبعاً مربك. فالعلاقة التي تشير اليها الكلمة هي في الدرجة الأولى علاقة بين إنسان وحيوان. فالعمل السياسي في مفهوم الكلمة العربية يعكس هذه العلاقة المعقدة. فإن كانت العلاقة تتلخص بتوجيه الشعب في اتجاه معين من النخبة السياسية، فإن هذا يدل على ان حقل المفهوم السياسي ينتمي الى ميدان العلاقات الإنسانية والتراتبيات الاجتماعية. لكن لماذا الإهتمام بأصل كلمة سياسة بالتحديد؟ هذا لأنه إن عدنا الى تعريف كلمة “سياسة” في اللغات السامية القديمة كالفينيقية والأرامية أو حتى السريانية، نرى إن هذه اللغات كانت تستعمل تعريفا مشتركا لهذه الكلمة: “مدينايو”.
إن هذا التعبير القديم يستحق بعض الإنتباه. فكلمة “مدينايو” ترتبط ارتباطاً وثيقاً بكلمة “مدينة”، ومن هذه الكلمة تشتق كلمة “مدنية” و”تمدن”. هذا الارتباط قد يبدو للوهلة الأولى غريباً بعض الشيء، لكننا اذا تعمقنا قليلاً في هذا المفهوم نرى أن له الكثير من الحيثيات. أولاً، هذا يعني أن العمل السياسي في الحضارات السامية القديمة كان هدفه في الدرجة الاولى الإهتمام بشوؤن المدينة. هذا المفهوم يختلف اختلافاً جذرياً مع الصفة التي تحدد علاقة الرئيس بالمرؤوس في اللغة العربية، والتي تجد حقلها في العلاقات الانسانية في الدرجة الاولى. فحيث التعبير الأول حقله تحديد تراتبية معينة بين الناس، نجد ان التعبير الثاني يحدد علاقة الإنسان مع محيطه المدني. للتعبير الثاني أيضاً ارتباط بكلمة “دين”، فالدين هو القانون الذي ينظم العلاقات الدينية في المجتمع المدني، المتمدن.
هذا التعريف الثاني من جهة أخرى له صدى في اللغات اللاتينية واليونانية، فكلمة “سياسة” في هذه اللغات تعني “Politics”، وهذه الكلمة مشتقة من الأصل اليوناني للكلمة “politikos” ومرتبطة بكلمة “polis”، التي تعني طبعاً “المدينة”. هذا الإرتداد بين كلمة “مدينايو” وكلمة “politikos” يبدو مفهوماً بعض الشيء بعدما توضحت العلاقة بين المجال المشترك للكلمتين السامية والغربية، الذي هو المجال المدني.
لكن قبل أن نبحث أكثر عن ماهية العمارة بين السياسة والمدنية، علينا أولاً تحديد مجال العمل المعماري. إن العمارة بمفهومها الشعبي اليوم تُعنى بتصميم البناء. لكن العمارة اكثر من هذا. ان حقل العمارة يختص، بالإضافة الى تصميم المباني، بالتصميم المدني، تصميم الحدائق، تصميم البنى التحتية، الخ. بإختصار، العمارة تُعنى بتصميم المجتمعات الإنسانية، ولو تفرعت الإختصاصات المعمارية اليوم في الحقول التعليمية. فالعمارة إذاً ترتبط إرتباطاً وثيقاً بالمفهوم السامي القديم لكلمة “سياسة” أي “مدينايو”. بالمقارنة، لا تجد العمارة حقلاً لها في المفهوم العربي الحديث لكلمة سياسة.
ربما لهذا السبب نرى أن دور العمارة اليوم في المجتمعات العربية ليس له الوزن الذي تكتسبه هذه المهنة في المجتمعات الغربية. فالمجال السياسي في اللغة العربية يركّز على العلاقات الإنسانية ويحدد المراكز الإجتماعية في الدرجة الأولى، بينما المجال السياسي في الحضارات السامية القديمة وفي المجتمعات الغربية يركز على علاقة الإنسان بالمحيط المدني. وبما أن العلاقات السياسية ركن أساسي في تركيبة الدولة، وله تأثير كبير في السياسة الإنمائية الوطنية، له طبعاً تأثير في موقع العمارة في تراتبية الاهتمامات السياسية. لربما أيضاً هنا نرى فشل ما يسمى بالربيع العربي عموماً. فالشعار الأساسي لهذه الحركة كان ولا يزال “الشعب يريد إسقاط النظام”. هذا يعني أن الشعوب تسعى لتغيير رأس الهرم الإجتماعي والتراتبي من دون تغيير يذكر للمفهوم السياسي جذرياً. هذا يدل على إن الهدف الأساسي هو إسقاط النظام الحالي من دون رؤية واضحة للنظام الذي يجب أن يتبع هذا التغيير، أو حتى لتعديل العلاقات الإجتماعية والمدنية. فلو كان الشعار مثلاً هو “الشعب يريد النظام الديموقراطي”، أو “الشعب يريد النظام المدني” لكانت الحركة التصحيحية أسست لرؤية واضحة قائمة على ما يجب أن يحققه إسقاط الأنظمة الحالية. فهذا الغموض في قلب الحركة التصحيحية ناتج من توتر بين المفهومين التراتبي والمدني لكلمة “سياسة”. فطالما التغيير المنشود يرتكز على تغيير الهرمية السياسية دون التعديل الجذري للمفهوم السياسي، فكل تغيير سوف يرتد حتماً الى النهج السياسي الحالي مع تغيير بسيط في التركيبة الهرمية لهذا النهج.
إن اهمية البعد المدني للسياسة تتطلب منّا إعادة التفكير في كيفية تعريف مفهوم هذه الكلمة جذرياً. لسنا في صدد استبدال المفردات العامة أو التخلي عن كلمة سياسة (مع ان حركة من هذا النوع قد تكون مفيدة)، لأن من المستحيل أيضاً إستبدال هذه الكلمة وخصوصاً في المجتمع اللبناني بكلمة أخرى أكثر ملاءمة تحترم أكثر المفهوم المدني. لكن في إمكاننا مثلاً، أن نحدد البعد المدني المنشود بتعبير آخر. فلنقل “السياسة التمدنية”، فيكون هذا التعبير دلالة على توضيح الإختلاف في المعنى. هنا أيضاً نرى الحاجة لإيجاد تعبير أكثر ملاءمة لكلمة سياسة في المفهوم الحالي. فلنسمِّها “السياسة التراتبية”. هنا يصبح تعبير السياسة التمدنية دالاً على علاقة المواطن بالمدينة، ومن الممكن أيضاً أن يساعد هذا التعبير في توضيح هذا الفرق الجوهري بين المفهومين لكي يساهم المواطن في بناء سياسة تمدنية مختلفة عن السياسة التراتبية. هذاً طبعاً يتطلب وعياً معيناً من المواطن كي يرفض جميع أشكال السياسة التراتبية والمطالبة بسياسة تمدنية تؤسس لبنى تحتية حديثة تناسب العصر. فالسياسة التمدنية تتجاهل الخلافات الإيديولوجية، العقائدية، الدينية، الخ. وتركز على تطوير المدينة في الدرجة الأولى والعلاقات المدنية ضمن هذا الإطار المدني.
نرى اليوم اهمالاً واضحاً للبنى التحتية في لبنان. فوجود طريق معبدة صالحة للسير مثلاً غير كاف. فالطريق يجب أن تكون جزءاً من نظام متكامل مرتبط بجميع أجزاء العمارة الإنسانية. هنا يأتي دور العمارة كوسيلة لدفع المجتمع المدني والتمدني نحو خلق نظام بنائي ملائم للمحيط الإنساني. فما غير العمارة يعطي الشكل البنائي للمجتمعات الإنسانية؟ لا أقول بأن العمارة تستطيع تخليص الإنسان والمجتمع، فالتغيير لا يأتي إلا من خلال الإرادة الإنسانية، ولكن العمارة هي الوسيلة التي تترجم الإرادة الإنسانية من خلال تطوير المحيط البنائي وتوفير النظام المديني (أي نظام متكامل للمدينة) الذي تتفاعل ضمنه العلاقات الإنسانية والمدنية.
فالرصيف مثلاً ليس مجرد ممر للمشاة، بل هو الحد الفاصل بين المساحة الخاصة والمساحة العامة. فالمواطن حين يخرج من البيت أو المبنى السكني، يأتي وجهاً لوجه مع القانون المدني حين يدوس على الرصيف أمام المبنى. فالرصيف يقول له إنه المساحة المخصصة للمشاة، ويحدد حركة سيره ضمن المدينة. فإن كان الرصيف مفقوداً، أصبح الفضاء المدني امتداداً للفضاء الخاص، وألغى الحد الفاصل بين الخاص والعام. لكن وجود الرصيف غير كاف، لأنه جزء من نظام متكامل، فحين تكون أجزاء كثيرة من هذا النظام مفقودة، من غير المنطق أن نترجى أن يعمل. فإن لم يكن هناك إشارة سير تحدد السرعة القصوى، فكيف علينا أن نتوقع أن يحترم السائق السرعة القصوى؟ لا نستطيع أن نلوم المواطن على كل مشكلات البلد ولو اتفقنا نظرياً أن على المواطن التمتع بالحس المدني. علينا أولاً توفير البنى التحتية الملائمة والنظام السياسي والقانوني المتكامل الذي يستطيع تنظيم دور المواطن في المجتمع المدني، وهذا النظام هو في الدرجة الأولى نظام معماري. إن تطوير نظام مديني قادر على إرساء الأسس الضرورية لخلق التغيير، أساسي لتحقيق السياسة التمدنية.
إن علاقة السياسة بالمدينة اليوم هي علاقة مختلة، فالأولوية التي تعطى للإختلاف السياسي أو الإيديولوجي أو العقائدي أو الطائفي، إنما هي دليل على أن مفهوم السياسة التراتبية هو المفهوم الطاغي على مفاصل الدولة والعلاقات العامة.
لربما حان الوقت لإعادة إحياء المفهوم السامي القديم لكلمة سياسة، أي السياسة التمدنية، وإعادة دور العمل السياسي للإهتمام بشؤون المدينة، وبشؤون المواطن وعلاقته مع المجتمع المدني. هذا التحول، إن كان ممكناً، يضع موقع العمارة في صلب المعادلة السياسية، ويعطي الأولوية لتحويل البنى التحتية المدنية وتحديثها، ويخرجنا من لعبة التجاذبات السياسية التي أصبحت تقض مضجع المواطن اللبناني.