Skip to main content

Article in Annahar Newspaper (Online) published on March 24, 2013

نحن اليوم في أمسّ الحاجة الى إعادة النظر في الشكل الذي نعطيه للقرى اللبنانية وخصوصاً المحاذية منها للمدن الكبرى. ان القوانين التي تتحكم بتصنيف الأراضي في القرى هي في أفضل الأحوال اعتباطية وفي الأسوأ سياسية أو حتّى طائفية. من عوامل الاستثمار الى التراجعات، الى فرض القرميد والحجر، يبدو أننا نتخبط في الوحول العكرة. هذه المقالة محاولة للكشف عن أفكار قد تفضي الى صوغ قوانين للحد من ظاهرتي التمدد المدني والتشويه اللتين تكتسحان قرى لبنان.

إذا نظرنا الى القرى المحيطة بالمدن الكبرى، وجدنا إن توسع المدن يمتد أفقياً ويجتاح القرى المحيطة بالمدينة ويجعلها إمّا جزءا منها، وإما مدناً مستقلة بذاتها. هذا يؤدي الى فقدان الطابع القروي اللبناني تدريجاً، أو ذوبانه الى درجة الإنحلال، في ظل غياب أي قانون يتحكم بحدود  توسع المدن اللبنانية في اتجاه القرى. فهذا التمدد يؤسس لبيئة انسانية ومعمارية سيئة. لأنه لا يأخذ في الحسبان توافر البنى التحتية الملائمة بسبب غياب أي نوع من التخطيط، مما يؤدي الى خلق ضواحٍ هي بؤر غير صالحة للعيش، والى القضاء على فضاءات أساسية كانت متوافرة عضوياً في كل قرية لبنانية: من الساحة الى السوق  الى الحدائق والملاعب الخ. هذه المكوّنات كانت جزءاً رئيسياً من الحياة القروية والمدنية، وهي الصمغ الذي يمتّن الحياة الاجتماعية.

دير القمر

هنالك عوامل أخرى إضافية تشكل جزءاً لا يتجزأ من هذا التحول. فالهندسة المعمارية المتبعة لا تنتج عمارة تتمتع بأي قيمة معمارية تذكر، الا في بعض المباني القليلة والاستثنائية. وإذا كانت اكثرية المباني المستحدثة لا تتمتع بأي قيمة معمارية تذكر، فما هو الشكل المعماري الذي قد يعطي معنىً للقرى اللبنانية المعاصرة؟ هنا نجد أنفسنا أمام سؤال محيِّر بالفعل، وفي صلب هذا السؤال، النمط المعماري الذي يجب اعتماده في القرى. إن مفهوم النمط المعماري قديم قدم العمارة الإنسانية. لكن مع ظهور العمارة الحديثة في أوائل القرن العشرين ومع الإمكانات التي وفرها البناء بالباطون المسلح، بدأ شكل العمارة التقليدية يتغير تباعاً الى ان انفصل كلياً في لبنان بعد الأربعينات من القرن الماضي عن اشكال العمارة التقليدية اللبنانية. مع تألق العصر الذهبي للعمارة الحديثة في منتصف الستينات وانحساره مع بدء الحرب الأهلية، وجدنا انفسنا في محيط هندسي اتخذ خلال الأربعين سنة الماضية اشكالاً غريبة واعتباطية.

أسست السنون الماضية محيطاً عمرانياً غير صالح للعيش، غير متناسق مدنياً، ويفتقر إلى أقل الحاجات المعمارية من أشكال ومساحات تعبّر عن الفكر المعماري المعاصر أو حتى التقليدي. هذا الوضع يتطلب اعادة تفكير في المفاهيم المعمارية الملائمة للعصر. لا ضرورة لأن تكون هذه العمارة تبعية ومستنسخة، بل ملائمة للطابع والبيئة المحليين. هذا يتطلب سعياً واعياً للوصول الى نمط هندسي حديث نستطيع القول إنه ملائم للمحيط والحالة اللبنانية ويعبّر عن الثقافة المحلية.

سوف نجد من يقول باستحالة الوصول الى نمط معماري موحد قد يعطي البيئة المعمارية معنىً وشكلاً وطابعاً مدنياً معاصراً، وخصوصاً في ظل نظام رأسمالي يضع العملية العقارية فوق كل اعتبار. لذا نرى اليوم ان النمط الهندسي الذي تأسس خلال الأربعين سنة الماضية، هو “البناية” التي تحتوي على عدد من الشقق السكنية التي فرضت على المحيط اللبناني هويته المدنية.

لكن يكمن خلف هذا النمط، انعدام الرؤية المعمارية للمحيط المدني الذي امتلأ بمجموعات ضخمة من الأجسام الخرسانية ذات البلكونات النافرة. هذه المباني نجمت عن عوامل كثيرة، منها قانون البناء الحالي وقانون التنظيم المدني، اضافة الى لعبة الاستثمار، ووضع تصاميم مناسبة للربح السريع. هذه طبعاً ميزة النظام الرأسمالي، ولكن في لبنان يضاف الى هذه المعادلة انعدام رؤية معمارية، ادى غيابها الى الفوضى. وهناك ايضاً نزعة جديدة في تصنيف الأراضي في القرى اللبنانية، تعتمد على محاولة يائسة للعودة الى أشكال وعناصر معمارية تقليدية. نجد أراضي مصنفة 40 في المئة أو 60 في المئة أو حتى 100 في المئة لاستعمال الحجر والقرميد في البناء، مع العلم أن مواد البناء الأساسية المستعملة هي الباطون والحجر الخرساني. هنا علينا أن نسأل إن كانت العمارة معبّرة عن العصر الحالي أو هي نوستالجيا لعصر مضى؟ الجواب هو طبعاً نوستالجي. لكن المشكلة تكمن في أن هذه التفاصيل الهندسية والتقليدية ليست ذات قيمة معمارية مثل بعض عناصر عمارة ما بعد الحداثة في أوروبا مثلاً، بل هي في افضل الأحوال نوستالجيا سطحية.

بشري

البيت اللبناني القديم هو نتيجة تطور إجتماعي، إقتصادي، عمراني، زالت أسبابه منذ بداية القرن العشرين. كل محاولة لإعادة ابتكار الأشكال والمواد المعمارية القديمة واستعمالها هي محاولة يائسة، ونتائجها كارثية على المستوى المدني والمعماري، لأنها تولد منشآت غريبة، هجينة وغير متناسقة. هذه التناقضات تكلم عنها المهندس الفرنسي الشهير فيوليت لو دوك منذ عام 1863 حين انتقد عمارة عصره انذاك بسبب “ان المعماريين يحاولون استعمال الأشكال الموروثة مع وظائف حديثة لا يتطابق مضمونها مع هذه الأشكال”. أما العمارة في لبنان اليوم في طور فقدان (كي لا نقول فقدان) القيم المعمارية التي تنتج بيئة مدنية معبرة. كيف علينا اذاً أن نواجه مشكلة تصنيف الأراضي في لبنان من دون مراعاة النوستالجيا المصطنعة؟ هنا علينا البدء بتحليل الواقع والتعامل معه بطريقة عقلانية.

أولاً علينا فهم هوية سقوف القرميد اللبنانية التقليدية. إن “ثكنة” القرميد هي شكل معماري ازدهر في لبنان بكثرة بدءاً من منتصف القرن الثامن عشر، تبعاً لازدهار صناعة الحرير وتجارته، التي وفرت الإمكانات المادية لإستعمال هذا العنصر المعماري في المباني اللبنانية، وخصوصاً في قرى جبل لبنان. كانت الثكنة حلاً لمشكلة أقلقت المزارع اللبناني على مدى عصور. هذه المشكلة كانت تقنية في الدرجة الأولى. كان سطح البيت اللبناني قبل القرن التاسع عشر مصنوعاً من الطين ويحتاج الى متابعة مستمرة لمنع نش المياه الى داخل البيت. فكان السطح يحدل مرّات في السنة. مع تزايد بناء ثكنة القرميد، وجد المزارع اللبناني حلاً مناسباً لهذه المشكلة. نرى أن الكثير من البيوت اللبنانية أضافت ثكنة قرميد فوق السطح القديم، بينما المباني التي ظهرت بعد ذلك دمجت ثكنة القرميد كعنصر معماري أساسي في عملية التصميم، فأصبحت الثكنة دلالة على الوضع الاقتصادي لصاحب البيت.

حمانا

بما ان المساحات الداخلية للبناء مهمة في المباني التقليدية، وعامل الاقتصاد أساسي في القرى اللبنانية، كانت المساحة داخل ثكنة القرميد جزءاً لا يتجزأ من البيت. بعد دخول الباطون كمادة بناء اساسية الى لبنان في العشرينات من القرن الماضي، نرى أن المنازل التي لم تتكيف بوضع ثكنة قرميد لسبب أو لآخر، استبدلت أخيراً السطح الطيني بسطح من الباطون كحل عملي واقتصادي، من دون الحاجة الى ثكنة قرميد راح حضورها يتضاءل كعنصر معماري في العملية الهندسية بعد ظهور مادة الباطون.

أما فرض ثكنة القرميد اليوم على العمارة الحديثة فهو محاولة بائسة للحد من مشكلة معمارية مزمنة. فصاحب المشروع الهندسي اليوم مجبر إقتصادياً للصق ثكنة قرميد على مبنىً لا يمت بصلة الى العمارة التقليدية، غير قادر على استثمار المساحة الداخلية للثكنة، لأن القانون في معظم المناطق ينص على أن يكون علو الثكنة لا يزيد على ثلاثة أمتار، مما يجعل المساحة الداخلية عديمة الفائدة. إن ثكنة القرميد اليوم هي إذاً ضريبة تزيينية مركبة فوق مبنىً خرساني ومن دون أي قيمة وظيفية. هذه المشكلة تدفع بالمهندس المعماري الى تركيب ثكنة قرميد فوق تصميم لا يتناسب مع مفهوم تصميم المباني ذات الثكنات.

دوما

أما واجهات المباني الحجرية، فلا يتعدى الحجر القشرة المفروضة في قانون البناء، وتحيي النوستالجيا السطحية وتلصقها بالمبنى الحديث. ولأن ثكنة القرميد تحتاج لعنصر مكمل كانت الواجهة الحجرية عنصراً بديهياً. هذا الحل لا قيمة معمارية له، لأنه قيمة زائدة وليست رئيسية. هذه النظرة ليست ضد التلبيس كعنصر معماري، بل للقول إن فرض مادة الحجر كعنصر تلبيس إجباري، ليست ذات قيمة معمارية.

إن قانون تصنيف الأراضي في القرى اللبنانية يستطيع الحد من اجتياح لعبة الاستثمار والمزايدة، ويؤسس لبداية حل لهذه المشكلات. لكن أي تعديل يجب أن يكون مقروناً برؤية معمارية واضحة للشكل المدني والمعماري الذي علينا انتاجه في القرية اللبنانية. فأي قانون لا يأخذ في الاعتبار الأحزمة الخضراء التي تفصل بين قرية وأخرى مثلاً، هو ساقط حكماً. فالقرى اليوم تتوسع بعضها في اتجاه بعضها الآخر، بحيث بتنا لا نعرف أين تنتهي قرية وتبدأ أخرى. من جهة ثانية يجب أن يتم البحث عن النسب والتراجعات الملائمة للمحافظة على نسبة مقبولة من المساحات الخضراء من المساحات القابلة للإختراق من مياه الأمطار. هذه المكونات هي طبعاً بديهية، لكنها غير متوافرة. فصاحب المشروع في وسعه تزفيت مجمل مساحة أرضه او صبّها بالباطون من دون رادع. وقدرة البلديات مع التنظيم المدني على تحديد هذه القوانين ليست بالأمر السهل. فتغيير نسبة الاستثمار السطحي مثلاً من 40 في المئة الى 25 في المئة له انعكاسات على مستوى السياسة المحليّة.

هذه المشكلة ليست بجديدة. فنظام تصنيف الأراضي الموروث من الحقبة التحديثية المعمارية، تعرّض لانتقادات شديدة في أوروبا والغرب. والعمارة التحديثية تحبذ التصانيف التي تقول بإبعاد المباني بعضها عن البعض الآخر، لسببين رئيسيين: فكرة المدينة – الجنينة هي في صلب المعتقد التحديثي من جهة، ومن جهة أخرى يساعد الفصل بين المباني على تحقيق الشخصية المعمارية الخاصة للمبنى. هذه الظاهرة ليست حكراً على لبنان، فالمؤرخ والمنظّر البريطاني كينيث فرامبتون مثلاً ينتقد النموذج الأميركي ويحبذ النموذج الأوروبي الداعي الى تلاصق المباني. لكن حتى في أميركا، هنالك مجموعة قوانين صارمة تنظّم العملية الهندسية إلى درجة أن البعض يقول بأن لا عمارة في الضواحي الأميركية اليوم، بل فقط انماط هندسية متكررة .

في إمكاننا التعلم من جميع هذه الدروس. التغيير يجب أن يبدأ بالتخطيط المقترن برؤية واضحة لمستقبل الشكل المعماري للقرية اللبنانية من دون الاستناد الى أشكال نوستالجية. لقد تعلم الغرب من دروس الماضي وهو يحاول التأقلم. فالغرب أيضا يتصارع مع مجموعة مفاهيم معقدة في مرحلة ما بعد الحداثة. نعي في لبنان أن هنالك مشكلة لكن الجواب يأتي في أكثر الأحيان على شكل فرض بعض العناصر النوستالجية. لا يبدو أن أي شئ سيتغير في القريب العاجل، مع العلم بأننا نفقد وقتاً ثميناً قد لا نستطيع استرداده. إن كان لا بد من التغيير، فيجب أن يبدأ على مستوى العمل البلدي لكي ننقذ ما لم يتم إفساده بعد. هذا لا يعني التخلي عن ماض معماري لبناني عريق يجب المحافظة عليه بشتى الوسائل، ولا يعني أيضاً أن علينا التمثل بالغرب. فالعمارة تزدهر بالخصوصية المحلية. لكن علينا أولاً البحث عن خصوصية مدنية ومعمارية وإنتاجها على نحوٍ يناسب الحال اللبنانية المعاصرة، ويكون لها حضورها على مستوى العمارة العالمية.